استخدمت الألغام الأرضية للمرة الأولى خلال الحرب الأهلية الأمريكية التي دارت رحاها في العام 1861، إلا أن الروس كان أول من استخدم الألغام المضادة للدبابات في الحرب العالمية الأولى العام 1918، مع دخول سلاح الدبابات الى ساحات المعارك، حيث نشأت فكرة تصنيع ألغام لمنع تقدم الآليات. فيما استخدمت الألغام على نطاق أوسع إبان الحرب العالمية الثانية العام 1939 .
أصبحت الألغام المضادة للدبابات والأفراد، خلال الفترة الممتدة من العام 1917 وحتى العام 1940، من أولويات الاستراتيجية العسكرية للجيوش الكبرى؛ إذ انتشر استخدامها في كل مكان في العالم ولم يقتصر هذا الاستخدام على الجيوش النظامية، بل لجأت الى استخدامها المليشيات المسلحة ورجال حرب العصابات. وهذا ما جعل من الألغام خطراً عالمياً كبيراً؛ حيث تحولت بعد فترة وجيزة من سلاح مساعد إلى سلاح رئيس يدافع عن الأجنحة الضعيفة للمواقع الدفاعية العسكرية في المناطق المفتوحة، ويساعد في تعطيل محاورالهجوم الرئيسة للعدو، كما يوقف تقدمه واختراقه لتلك المواقع في بعض الحالات.
وصل الأمر الى تعميم هذه الصناعة الخطيرة، مع تدفق الألغام الى معظم الدول سيما التي كانت تشهد اضطرابات خارجية وداخلية، فاصبحت الألغام اعتبارا من الستينيات، من الأسلحة التي تلقى رواجاً وازدهاراً في سوق السلاح في العالم. ولأن أسعارها كانت متدنية، قياسا للأسلحة الاخرى؛ فان انتشارها وزرعها كان يتم بشكل عشوائي، من دون الالتزام بالمواثيق الدولية، فدفع المجتمع الدولي الثمن باهضاً بعد أن انتهت الحروب وتوقفت المعارك.
وتعد الولايات المتحدة الأميركية، روسيا، "اسرائيل"، ايطاليا، فرنسا، بلغاريا، السويد، الهند وباكستان، يوغوسلافيا، وبلجيكا، من أبرز الدول المصنعة للألغام في العالم.
أخطار كامنة
يعتقد أن سطح الأرض تمت زراعته منذ العام 1939 بأكثر من 400 مليون لغم. كما تفيد بعض تقديرات الأمم المتحدة بأن قرابة 110 مليون لغم أرضي لاتزال فاعلة في اراضي اكثر من 70دولة وتستهدف أرواح البشر. وإذا ما وضعنا في الحسبان الكميات الهائلة من الألغام المكدسة في ترسانات أسلحة ومخازن الجيوش في شتى انحاء العالم، لأدركنا ان الرقم 110 مليون لغم أقل بكثير عن ما هو معلن في الواقع. والذي يزيد من خطورة الأمر، أن صناعة الألغام لم تعد حكراً على الدول الصناعية وانما انتقلت الى دول العالم الثالث.
وتكمن خطورة هذه الألغام في أن فاعليتها تستمر إلى أمد طويل، كما أن عدداً كبيراً منها يزرع من دون أية خرائط. ويعتقد أن الألغام الأرضية والذخائر غير المتفجرة المنتشرة في أكثر من 90 بلداً في العالم، تؤدي إلى قتل أو تشويه من 15000 إلى 20,000 شخص سنوياً. وتتراوح الألغام في أحجامها فهنالك الصغير في حجم الزرار الذي لا يزيد قطره عن سنتمترين ويسمى ( لغم الفراشة). كما أن هنالك اللغم الضخم الذي يتراوح قطره بين 35 و 40 سنتمتراً. وتختلف الألغام في قوتها التدميرية، فبعضها لاتتعدى دائرة انفجارها متراً أو مترين، فيما ينفجر البعض الآخر في محيط مائة متر.
تتنوع الألغام من حيث طبيعتها التدميرية وأشكالها؛ فهنالك الألغام المضادة للأشخاص وهي صغيرة الحجم تحتوي على كمية من المتفجرات كافية لإعاقة الشخص أو قتله، وينفجر اللغم ضد الافراد بتاثير وزن فرد عادي في حدود «40 -100 كيلو جرام» والبعض منها بوزن اقل . أما الألغام المضادة للآليات والدبابات فتتميز بكونها كبيرة الحجم تحتوي على كمية كبيرة من المتفجرات كافية لتدمير الآلية وقتل أو اصابة من فيها أو من في جوارها، حيث يتفجر هذا اللغم عند مرور وزن ثقيل عليه أكبر من 85 كيلو جرام وحتى ما يقرب من وزن الدبابة «خمسين طن». هنالك أيضاً، الألغام المضيئة)مشاعل العثرة ) وهي مخصصة لإنارة مكان التسلل في الليل، إضافة إلى الذخائر غير المنفجرة من قذائف أو ذخائر من مخلفات الحروب لم تنفجر لسبب ما، قد تكون قنابل عنقودية أو عبوات مفخخة وغير ذلك. وتنفجر هذه الأجسام في أي وقت وتصيب أو تقتل الأشخاص على مسافات بعيدة والمئات منها مموه على شكل صخور أو حجارة أو لعب أطفال أو المقتنيات الشخصية ويطلق عليها في المفهوم العسكري اصطلاح "مصائد المغفلين" ، كما يموه بعضها داخل أحشاء حيوانات نافقة.
الحدود الجغرافية للألغام
تعد مشكلة الألغام من أبرز المشكلات العالمية، خاصة في الدول التي شهدت أو لم تزل تشهد حروباً على أراضيها.. ففي السنوات الأخيرة، ألقيت آلاف القنابل العنقودية على كوسوفو وافغانستان والعراق وتحتوي كل منها على قنابل صغيرة لا تنفجر في العادة، حيث تصبح بمثابة ألغام أرضية تنتظر أي شخص غافل . وبالتأكيد هنالك القنابل الصغيرة التي لم تنفجر والمصممة لاختراق الدروع التي ما زال يسقط لها ضحايا في الكويت بالرغم من مرور زمن طويل على نهاية حرب الخليج الثانية. ولعل مرور قرابة ثلاثة عقود على انتهاء حرب فيتنام لا ينفي حقيقة أن بعض الناس ما زالوا يقتلون فيها أو تبتر أطرافهم بسبب الذخائر العنقودية المنسية منذ ذلك الحين.
يذكر أن عدد الألغام في تزايد مستمر نتيجة لاستمرار النزاعات المسلحة واستمرار عمليات زراعتها أيضاً، بعض هذه العمليات يعود إلى حقب تاريخية بعيدة؛ حيث يوجد في أنغولا 15 مليون لغم، رصدت خلال الحرب الأهلية التي إندلعت في عام 1961 . ومثلها في كمبوديا وهي من مخلفات الحرب الأهلية التي إندلعت مع قوات الخمير الحمر، وإستمرت 12عاما، في أسوأ النزاعات منذ الحرب العالمية الثانية. كما تحتفظ أوكرانيا بخامس مخزون من الألغام المضادة للأفراد في العالم.
من ناحية أخرى، تُقدر الألغام البرية ضد الأفراد في منطقة الشرق الأوسط بنحو 45 بالمائة من مجموعها في العالم، ونصيب العالم العربي من هذه المشكلة ليس بالقليل؛ حيث يشير واقع البلاد العربية الى وجود عدد لا بأس به من حقول الألغام المزروعة على مساحات شاسعة من أرضه، يعود تاريخ بعضها الى فترة الحروب العالمية. كما نتج البعض الآخر عن النشاطات الحربية التي عصفت ببعض الدول سواء على صعيد الحروب الأهلية أو على صعيد الجبهات الحربية بين أكثر من دولة؛ ففي مصر وحدها تستقر، حسب بعض التقديرات، خمس ألغام العالم.
وعلى الرغم من انسحاب اسرائيل من الجنوب اللبناني إلا أنها خلفت وراءها ما يقارب 130,000 الف لغم أرضي ترفض تسليم خرائطها للسلطات اللبنانية، كما قدر الجيش اللبناني أن عدد المناطق الموبوءة بالألغام هو 2146 منطقة. وقامت اسرائيل، أيضاً، بزرع الآلاف من الألغام في الأراضي المحتلة العام 1967 ، حيث من المتوقع أن يكون هنالك 51 حقل ألغام في المناطق الفلسطينية وحدها، إضافة إلى 25 مليون لغم ما زالت مزروعة في العراق على طول الحدود مع ايران حيث تعد واحدة من أكبر حقول الموت في العالم، بحسب الإحصاءات الأخيرة. وكما أشارت التقارير فإن أكثر من 10 آلاف شخص قتلوا في انفجار الألغام في العراق خلال العقد الأخير. كما تم رصد أعلى معدل لنشر الألغام مقارنة بالمساحة الجغرافية للمكان وذلك في الكويت، حيث بلغ عدد الألغام في الكيلومتر المربع (92,4لغم) ، حدث هذا عندما قامت القوات العراقية بزرع أعداد هائلة من الألغام في معظم أرجاء الكويت، ابان حرب الخليج الثانية.
جهود الأمم المتحدة
تشارك الأمم المتحدة مشاركة فاعلة في الجهود الرامية إلى تخليص العالم من هذه الأسلحة الفتاكة، والتي يكون أول ضحاياها في الغالب، الأطفال والنساء والمسنين. كما ازداد الوعي العالمي لمحاربة الألغام الارضية خلال السنوات القليلة الماضية؛ فكانت اتفاقية أوتاوا للعام 1997 ، التي اعتبرت بمثابة قانون دولي ابتداءَ من الأول من مارس 1999، حيث وقعت عليها تباعاً أكثر من 135 دولة
وتنص الاتفاقية على الحظر الشامل على إنتاج وتخزين واستعمال وتطوير وتصدير ونقل الألغام، وتدمير كافة الألغام المضادة للافراد المنزوعة والمخزونة، والتعاون الدولي بشأن توعية المدنيين، ونزع الألغام بالوسائل الحديثة والمتطورة في هذا الشأن، وتنظيف البلدان المعنية بهذه المشكلة ومساعدة الضحايا وإعادة تأهيلهم.
ويأتي اتفاق أوتاوا، بعد اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بحظر أو تقييد استعمال أسلحة تقليدية معينة، الصادرة في العام 19800، والبروتوكول الثاني منها المتعلق بحظر أو تقييد استعمال الألغام والأشراك الخداعية ، والتي تضمنت في حينها ثغرات كبرى؛ كونها لا تطبق إلا على الدول المصنعة للألغام كما لا تطبق في الصراعات المسلحة الداخلية، فيما لم تحدد الآلية لمراقبة عمليات نقل وتصدير الألغام.
وكانت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي سريعة الاستجابة لما دعت إليه اتفاقية أوتاوا، حيث فرضت حظراً على الفور على تصدير كافة أنواع الألغام ومنع إنتاج ألغام جديدة.
ومع ذلك، ما زالت هنالك قرابة خمسين دولة لم توقع معاهدة أوتاوا، من بينها ثلاثة من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين، كما تشمل القائمة؛ أغلب دول الشرق الأوسط وأغلب جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. ولم تَنظم دول منتجة رئيسة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند وباكستان الى المعاهدة، كما لم توقع دول متضررة بشكل كبير بالألغام مثل الصومال والعراق واريتريا وغيرها.
وعلى الرغم من أن أغلب الدول التي لم توقع الإتفاقية في حينها، أيدت في وقت من الأوقات مبدأ الحظر الشامل على الألغام المضادة للأفراد، والعديد منها احتضن ولو بصورة جزئية معاهدة حظر الألغام ضمن إتفاق العام 1980 ، لكن يبدو من المؤكد أن ثلاث دول وقعت المعاهدة وهي انغولا وغينيا- بيساو والسنغال، استخدمت الألغام المضادة للأفراد في العام 1998 بعد توقيعها للمعاهدة.
كما أن الولايات المتحدة تعتبر أن ملف الألغام يتعلق بالأمن القومي لبلدها، حيث لا تزال تصرح بالاحتفاظ بحقها في استخدام الألغام الارضية وأهميتها في حماية القوات الأميركية في العالم. إلا أنها تؤيد فرض قيود على استخدامها. ورغم ذلك، استخدم الجيش الأمريكي الألغام المضادة للأفراد في حرب الخليج الثانية1991. ووفقاً لمعلومات "الحملة العالمية لحظر الألغام الأرضية"؛ وهي عبارة عن ائتلاف يضم أكثر من 1000 منظمة غير حكومية من أكثر من 50 دولة، تضم جماعات للشئون الانسانية وللسلام وجماعات طبية ودينية وبيئية ونسائية وجماعات لمراقبة التسلح وحقوق الانسان لها نشاطاتها المحلية والوطنية والاقليمية والعالمية من أجل حظر الألغام الارضية المضادة للافراد، أفادت هذه المنظمة بأن الولايات المتحدة الأمريكية نشرت حوالي 90,000 الف لغم أرضي لاستخدامها في حرب الخليج الثالثة في العراق، التي لم يكشف النقاب عن ضحاياها حتى اللحظة؛ هذا في الوقت الذي تذهب فيه بعض التقديرات الى أن الولايات المتحدة تمتلك رابع مخزون ألغام في العالم.
معوقات إزالة الألغام
وبحسب معاهدة أوتاوا أزيلت الألغام من أكثر من 185 مليون متر مربع في جميع أنحاء العالم في العام 2000. إلا أن خطر الألغام الأرضية مازال جسيماً ؛ حيث يقول تقرير لمجموعة من الخبراء أن عملية إزالة الألغام نهائيا من العالم، تتطلب أكثر من 1100 عاماً، هذا إذا لم يزرع أي لغم جديد. كما أن مقابل 100 الف لغم يتم نزعها من باطن الارض، يتم زرع 2مليون لغم سنويا، أي مقابل زرع 20 لغما ينزع لغم واحد.
والمعروف أن الوسائل التقليدية المستخدمة في تطهير حقول الألغام والتي تعتمد على استخدام الوسائل الميكانيكية، أوالمتفجرات وغيرها؛ تتصف بتكلفتها العالية جدا، ;كلفة ازالة لغم واحد تتراوح مابين 1000 - 300 دولار لإزالته، في الوقت الذي تبلغ تكلفة إنتاج لغم واحد بين 3 و30 دولاراً أمريكياً. وتورد التقارير أن مقابل نزع 5000 لغم، يقتل واحد من خبراء الألغام الذين يتولون نزعها، ويصاب إثنان منهم.
وعلى الرغم أن العديد من البلدان في قارات العالم المختلفة أبلغت عن وجود الألغام في أراضيها، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن هناك أكثر من 20 بلداً ليس لديها خرائط توضيحية عن أماكن االألغام، ومثال ذلك أفغانستان التي عانت، خلال العقد الأخير، من حروب أهلية شرسة بين الفصائل المتناحرة، وانتهت بالحملة العسكرية الأمريكية.
وتفيد استطلاعات المرصد العالمي للألغام للعام 2002؛ الذي يصدر عن الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية، بأن هنالك ضحايا جدد للألغام تم الإبلاغ عنها في 70 دولة في العام 2000، ومعظم هذه الدول كانت في حالة سلم و ليس حرب.
هنالك حقيقة تؤكد على أن 10% من القتلى والمصابين في الحرب العالمية الأولى كانوا من المدنيين. وفي الحرب العالمية الثانية كانت النسبة 50%من المدنيين. أما حروب أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين فقد سجلت سقوط 90% من الضحايا بين صفوف المدنيين. وكانت الألغام تشكل علامات رئيسة في قتل المدنيين، فهل ستستمر هذه الزيادة التصاعدية، في حقول الموت التي لا تحصد سوى البشر؟